الكعبة المشرفة
بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم
المسجد الحرام ورد ذكره في القرآن الكريم بأسماء متعددة: الكعبة، البيت الحرام، البيت العتيق.
وجعل الله البيت الحرام قيامًا للناس.. ومثابةً للناس وأمنًا.
قال الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ (المائدة: من الآية 97).
وقال الله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (البقرة: من الآية 125).
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج: الآية 29).
وقال تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج: الآية 33).
وسميت بالكعبة لأنها مربعة، وأكثر بيوت العرب مدورة (1).
وقيل: لعلوها ونتوئها، وكل بيت مربع فهو عند العرب كعبة (2).
وأما عن تسميته بالبيت الحرام فيقول القرطبي: "وسميت بالبيت؛ لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية، وإن لم يكن بها ساكن" (3)، وسمي البيت حرامًا؛ لأن حرمته انتشرت، فلا يُصادُّ عنده ولا حوله، ولا يختلى ما حوله من الحشيش.
وأما تسميته بالبيت العتيق، ففيه أربعة أقوال:
أحدها: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة (4)؛ فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عنه وسلم : "إنما سمَّى الله البيتَ العتيقَ؛ لأنه لم يظهر عليه جبارٌ" (5)، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (6)، وعن مجاهد رضي الله عنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يرِدْه أحد بسوء إلا هلك (7).
والثاني: أن العتيق: بمعنى القديم (.
والثالث: لأنه لم يملك قط(9)، فعن مجاهد رضي
الله عنه قال: إنما سُمِّيَ البيتُ العتيق؛ لأنه أعتق من الجبابرة، لم
يَدَّعِهِ جبارٌ قط، وفي لفظ: فليس في الأرض جبار يدَّعِي أنه له (10).
والرابع: لأنه أُعتق من الغرق زمن الطوفان (11)؛ فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أُعتق من الغرق في زمان نوح (12).
لماذا كانت الكعبة قيامًا للناس وأمنًا؟
[center]
الشيخ حجازي إبراهيم
"صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قوام لهم من رئيس
يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فحجز بكل
واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيام غيره، وجعلها معالم لدينهم
ومصالح أمورهم"(13).
ويقول القرطبي: "﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ أي صلاحًا ومعاشًا، لأمن الناس بها، وعلى هذا يكون ﴿قِيَامًا﴾ بمعنى يقومون بها. وقيل: ﴿قِيَامًا﴾ أي يقومون بشرائعها".
والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قيامًا للناس،
أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع
والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية
والمشيئة الأولية من كافٍّ يدوم معه الحال، ووازع يُحمد معه المآل.
ولنفس المعنى كانت الخلافة، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
(البقرة: من الآية 30)، فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعل أمورهم إلى
واحد يزعُهم ويزجرهم عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد
الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه.
روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقول: إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن.
وجَوْر السلطان عامًا واحدًا أقلُّ إذاية من كون الناس فوضى لحظة
واحدة، فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأمور،
ويكف الله به عادية الجمهور.
فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته،
وعظَّم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصومًا به، وكان من اضطُهِد
محميًّا بالكون فيه.
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: من الآية 67).
قال العلماء: فلما كان موضعًا مخصوصًا، لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله
كل خائف؛ جعل الله الشهر الحرام ملجأً آخر، وهي- أي الأشهر الحُرم- بإجماع
من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يُرَوِّعون فيها سربًا-
أي نفسًا- ولا يطلبون فيها دمًا، ولا يتوقعون فيها ثأرًا، حتى كان الرجل
يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، واقتطعوا فيها ثلث الزمان، ووصلوا
منها ثلاثة متوالية، فسحةً وراحةً ومجالاً للسياحة في الأمن والاستراحة،
وجعلوا منها واحدًا منفردًا في نصف العام دركًا للاحترام، وهو شهر رجب.
ويقول الشهيد سيد قطب: "لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير
والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام، وفي فترة الإحرام بالنسبة
للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم؛ كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز
فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب.. ولقد
ألقى الله في قلوب العرب- حتى في جاهليتهم- حرمة هذه الأشهر، فكانوا لا
يروِّعون فيها نفسًا، ولا يطلبون فيها دمًا، ولا يتوقعون فيها ثأرًا، حتى
كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، فكانت مجالاً آمنًا
للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق.. جعلها الله كذلك لأنه أراد
للكعبة- بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام، تقيم الناس وتقيهم
الخوف والفزع، كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منطقة أمن في الزمان كالكعبة
منطقة أمن في المكان...".
ما أعظم هذا الدين؟
وماأحوج الناس إليه في عصرنا وفي كل عصر لينعموا بالأمن والأمان الذي حُرمُوه
بحروب لا تبقي ولا تذر... وقتال تارة من معتدين غاصبين يريدون نهب
الخيرات، وتارة أخرى بين المسلمين وبعضهم البعض، هذه الحروب ألقت بالرعب
والخوف في كل مكان، وهجرت الكثير من الأوطان، ويتَّمت العديد من الأطفال،
ورملت الكثير من النساء، وغدا العالم على بحر من اللهب، ونهر من الدماء،
وأضحى الخراب والدمار يتهدد الجميع.
أيتها البشرية المعذبة!
هلموا إلى واحة الإسلام الفيحاء لتنعموا بالأمن والأمان...أيها الطغاة كفوا عن حرب الإسلام فهو دواؤكم وسعادتكم... في الدنيا والآخرة...
أيها الظالمون المستبدون! لن تضروا دين الله شيئًا، وبحربكم للإسلام تذبحون أنفسكم وتهددون مستقبل الإنسانية...
أيها المسلمون! في دين الله قيامكم وقيام البشرية، فاستمسكوا بحبل الله
المتين، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ ينصركم الله ويثبت
أقدامكم، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
---------------------
(1) الجامع لأحكام القرآن 6/ 209.
(2) لسان العرب 1/ 718- 719.
(3) الجامع لأحكام القرآن 6/ 209.
(4) تفسير الطبري 9/ 141.
(5) الترمذي 5/ 324، 3170، تفسير القرآن – ومن سورة الحج، وحسنه.
(6) الدر المنثور 4/ 643، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(7) المرجع السابق 4/ 643، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
( تفسير الطبري 9/ 141.
(9) تفسير الطبري 9/ 141.
(10) المرجع السابق 4/643، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(11) ابن الجوزي، مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ص 243- 244.
(12) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/ 643، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(13) تفسير الطبري 5/ 77.
---------------------
" من علماء الأزهر الشريف. "[/center]